فلسطين المحتلة - خاص شبكة قُدس: حركة المقاومة في المجتمعات التي تخضع للاحتلال وسياسات التدمير الاستعماري تخضع لشبكة معقدة من الاعتبارات على المستويات الفكرية والمعنوية والشعورية والتعبوية، تأخذ قضية الرموز مساحة استراتيجية فيها، في ظل أن الشعوب غالباً ما تكون متسلحة بقدرات عسكرية أو مادية أقل بكثير من قوة الاحتلال، وهو ما يجعل من التحشيد المعنوي والأبعاد الرمزية مهمة ضرورية لجسر الهوة بين الواقع والأهداف النهائية لعملية النضال.
دخلت المقاومة في الضفة المحتلة منذ سنوات مرحلة شديدة التعقيد، تعرضت فيها لملاحقات مركبة تتجاوز العمليات الأمنية والعسكرية إلى محاولات تهشيم وتدمير الحاضنة الثقافية والفكرية العليا التي تغذي المجتمع بشكل مستمر نحو استمرار المواجهة مع الاحتلال، ومنع الركون إلى واقع يصير فيه الوجود الاستيطاني الإسرائيلي واقعاً قابلاً للتصديق أو القبول.
تعددت وسائل محاربة حواضن تغذية ثقافة المقاومة بين إغلاق المراكز المعروفة للتنظيمات الفلسطينية، خاصة في الحملة الأمنية التي استهدفتها بعد انتفاضة الأقصى، وملاحقة الإعلام المحسوب عليها بذرائع مختلفة بينها "التحريض"، وتنفيذ حملة رقابة على (مؤسسات اجتماعياً) كانت تاريخياً محطة في تصعيد مقاومين جدد إلى ساحة الصراع مثل المساجد، بالإضافة إلى سياسات تعزيز "الاستهلاك" كقيمة مجتمعية بديلاً عن "التضحية" وغيرها من المفاهيم التي عاش عليها المجتمع الفلسطيني لعقود في مواجهة أحد أعتى أنظمة الاستعمار في العصر الحديث.
رمزية المقاوم ذاتها صارت مع السنوات هي ذاتها محل تركيز من قبل مخططي حملات محاربة المقاومة، بداية من تهشيم "قدسية" العمل الفدائي التي توافق عليها المجتمع الفلسطيني في سنوات نضاله، وهي لا تعني منح شهادات تقديس، بل رفع المقاتل في سبيل الحرية إلى مقام رفيع وخاصة بعد شهادته، وتخليد ذكره بكل الأدوات الفنية والثقافية والشعبية الممكنة.
تحطيم رموز شعب يعيش على سيرة الشهداء
تعلم دولة الاحتلال والأطراف المتحالفة معها رمزية الفدائي/ المقاوم/ المطارد/ الشهيد/ الأسير في وجدان الشعب الفلسطيني الذي خلد هؤلاء حتى في أغانيه الشعبية، وصار العرس مختلطاً بأناشيد التغزل بالشهادة والمواجهة، لذلك انصبت سياساتها على محاولة تحييد هذه المشاعر من خلال حملات بأبعاد مختلفة بينها "تشويه" المقاومين.
تناول نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي اليوم عقب استشهاد قائد كتيبة طولكرم في سرايا القدس، محمد جابر (أبو شجاع)، حملة "التشويه" التي تعرض لها في الشهور الماضية، من خلال تلفيق "تهم" له، بهدف إقصاء رمزيته وتحطيمها في المجتمع الفلسطيني، خاصة بين الشبان الصغار الذين التحقت أعداد منهم مع مجموعات المقاومة، خلال الشهور والسنوات الماضية، بتأثير هائل من شهداء وأسرى ورموز المقاومة، في الوقت الذي أصبح التجنيد التنظيمي المباشر صعباً في كثير من مناطق الضفة والقدس المحتلتين، بفعل الملاحقة الأمنية والعسكرية الشديدة للتنظيمات والأحزاب الفلسطينية التي تتبنى خط المقاومة.
في السنوات الماضية نمت ظواهر اجتماعية عدة، في الضفة الغربية، تقول بكل وضوح عن مدى تعلق الجيل الذي ولد غالباً بعد انتفاضة الأقصى، وأدرك الحياة والاستيطان والاحتلال يخنقها، ووعى على القضية الوطنية وهو يتابع حروب غزة وبطولات المقاومين فيها والمذابح التي يرتكبها الاحتلال، من صور الشهداء المنتشرة في كل مكان حتى على صدور الفتية ورقابهم، إلى الأغاني الوطنية والأناشيد التي تملأ الفضاء في المدن والمخيمات والقرى والبلدات، إلى الخلايا التي صار يشكلها فتية لم يبلغوا 18 عاماً من أعمارهم، وفي هذا العمر الصغير بعضهم جرب الاعتقال والإفراج في صفقة تبادل، وكان الشهيد أبو شجاع مع إبراهيم النابلسي وعشرات الشهداء والجرحى والأسرى الآخرين هم أبطال هذه المرحلة من تاريخ المواجهة.
حملة التشويه ضد الشهيد (أبو شجاع) الذي ارتفع إلى مقام الرمزية، في الشهور الماضية، بعد نجاته من عدة محاولات اغتيال من قبل الاحتلال، واستمراره في المقاومة وقيادة كتيبة طولكرم التابعة لسرايا القدس، انطلقت يقول نشطاء وسائل التواصل الاجتماعي من أطراف محسوبة على السلطة الفلسطينية، التي استخدمت ذات الأساليب مع رموز وطنية أخرى كان ذنبها هو الاختلاف في الموقف السياسي ورفض الاعتقال على خلفيات وطنية وسياسية، كما يؤكدون.
في شهر تموز/ يوليو الماضي، حاولت الأجهزة الأمنية الفلسطينية اعتقال (أبو شجاع) من داخل مستشفى طولكرم الذي وصل له مصاباً بعد انفجار عبوة فيه خلال عمليات التصنيع والإعداد للتصدي للاحتلال، لكن جماهير من طولكرم ومخيماتها توجهت إلى المكان ووقفت حائط صد تحمي عنه، وهو ما أكد على الرمزية التي اكتسبها الشهيد والمقاومين وجعلت الناس تتحرك دون أمر تنظيمي أو ترتيب مسبق.
الصدام الشعبي مع السلطة الفلسطينية كان دافعاً آخر لسيل من "التلفيقات" و"الشائعات" ضد قائد كتيبة طولكرم، ابن المخيم والطبقات الشعبية التي عادة ما عرف التاريخ عنها التضحية دون التمسك بالسلطة، وهذه الطبقات عادة ما يكون القيم الاجتماعية ومحبة الناس هي معياراً هاماً في حياتها، لذلك تتوجه عمليات التحطيم الاجتماعي الممنهج نحو القلب من حياتها، كما يؤكد مراقبون.
أمريكا تقود الحرب
في الشهور السابقة على معركة "طوفان الأقصى"، كانت قوى محلية وإقليمية مختلفة بينها دولة الاحتلال والولايات المتحدة الأمريكية والسلطة الفلسطينية والأردن ومصر، تعمل على منع تفجر ساحة الضفة المحتلة نحو ما يشبه الانتفاضة التي تعني تحطيم كل المشاريع السياسية التي ترى في استمرار الوضع الحالي "استقراراً لها، رغم أن الاحتلال استمر في مشاريع الاستيطان والتهويد ويسير بخطى ثابتة نحو الضم النهائي وخطة الحسم التي تعني السيطرة على البلاد بين البحر والنهر دون أي مقاومة، وتحويل الفلسطينيين إلى حطابين لا يعرفون شيئاً سوى العمل صباحاً والنوم ليلاً في معازل محاصرة بالحواجز والمستوطنات، دون أن يكون لهم حتى مشاعر قومية، وهذه ليست مبالغات لفظية أو خيالية، بل هو ما عبَر عنه وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش صراحة.
اجتمعت هذه القوى عدة مرات، في هذه الشهور قبل الحرب، وكان من ضمنها اجتماع في شرم الشيخ في آذار/ مارس 2023، وقالت مصادر صحفية مختلفة حينها إن الاتفاق كان على محاربة ما سمته "التحريض" ومحاربة المقاومة وبينها رموزها التي تشكل رافداً أساسياً يمنحها البقاء والتطور والنمو.
الاجتماع الذي لم يتطرق لــ"القضايا السياسية" وظهر كأنه حلقة نقاش هدفها الوحيد هو التفكير في كيفية القضاء على حالة المقاومة، خاصة في شمال الضفة المحتلة، ومنع تمددها إلى مناطق جديدة، بقيادة الولايات المتحدة التي لها أولوية قصوى في كل مرحلة هي كيف تضمن لدولة الاحتلال الاستمرار في مشاريع تصفية الفلسطينيين دون "إزعاج" أو مقاومة، والحديث في السياسة أو منح الفلسطينيين وحتى السلطة التي لها علاقات طويلة معها مؤجل حتى موعد لم يأت بعد، وما يهمها هو ضمان الأمن الإسرائيلي، كما يؤكد المحللون.
"الحرب الناعمة"... قتل مناعة المجتمعات
قد تكون "الشائعات" و"تلفيق التهم" وسيلة واضحة ومباشرة في عمليات تحطيم الرموز، لكن الحروب في العصر الحديثة صارت أكثر اعتماداً على ما يعرف بأدوات "الحرب الناعمة"، وهي التي تدمج فيها الوسائل الثقافية مع الاجتماعية مع القانونية والسياسية في حزمة واحدة هدفها إرباك الخصم وإدخاله في دوامة من فقدان الذات وعدم استشعار الهدف الأساسي من الصراع، والتخندق في موقف الدفاع عن الذات والتنازل أو التلهي عن مهمته الأساسية في ترتيب أوضاع وعمليات تسمح له باستمرار المواجهة.
وفي الحرب على المقاومة الفلسطينية حضرت الحرب الناعمة بأدوات مختلفة، بينها إغراق مواقع التواصل الاجتماعي بحملة شائعات تنال من الرموز الوطنية، وتغرقها في دوامة من المعارك الكلامية والدفاع عن الذات، وبين حرف النقاش من جرائم الاحتلال المتواصلة والتي هي أصل الصراع إلى تحميل كل فعل مقاوم مسؤولية مباشرة عن حرب الإبادة الجماعية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني.
و"الحرب الناعمة" تطال أيضاً رمزيات الفدائيين والمقاومين عبر الترويج لنماذج اختارت الاندماج في مسارات أخرى غير سياسية، أو سياسية موالية لمشاريع التسوية مع الاحتلال، في مقابل شن حملة تخويف من مستقبل من يختار المواجهة مع الاحتلال، وطمس الحديث عن أمل في تحرير أو عودة أو انعتاق في فضاء الحرية الذي لا يعرف الدمار والقيود والحصار الذي تعيشه فلسطين منذ عقود.